إحدى سبل التعبير عن وجدان المرأة في شكل فني هو العثور على معادل جامع أو ربما مجموعة من الموضوعات أو موقف أو حدث أو ربما سلسلة من الأحداث لتكون شكلاً لذلك الوجدان ”المحدد“ الذي يخص كل امرأة كما يخص الجميع بحيث عندما تقدم تلك الواقعة فنياً مع سلسلة الوقائع المحيطة الخارجية منها والداخلية يثار وجدان الجميع تجاه ذاك الحدث..
كانت قادمة من جنازة، جنازة كلبها الذي توفي عن عمرٍ طويل، جنازة لطيفة. ربما لن أحظى بمثلها، لكن ما المهم في أن أحظى بشيء أم لا بعد موتي؟ لم يكن لي من الحظ سوى القليل في الحياة. حظ الكلاب. لربما قد حظيت دون أن أدري أو أدري لكن أنكر، هكذا هو الانسان. لابد من الإشارة أن هناك أناس يعيشون في حالة مأساة حقيقية بما لا مجال فيه للشك. لا أدري، إن كنت واحداً منهم
في كل فكرة كتبتها من هذه المادة وكل تفكيك لرمز من رموز وأحداث هذه الرواية ( فقهاء الظلام) كنت أتذكر دريدا في إحدى حواراته التي تحدث فيها عن تجربته في الكتابة عن الرموز الفلسفية، إذ كان يكتب طوال النهار وفي اليوم التالي ينظر إلى الأوراق وكلماته بسخرية قائلاً لنفسه: ”كيف تجرأت وسمحت لنفسي كتابة هذا الكلام، جنون“. حدث معي الأمر نفسه، لكن في كل الأحوال - كوني أقدم نفسي بأني كائن هيغيلي لا يخشى الإخفاق بل أحيانا استعجله لأقف مجدداً في مكانٍ ثانٍ - تابعت حتى آخر فكرة.
مددت من النافذة رأسي فقط. فعلت ذلك بهدوء حتى لا أزعج نوم الآخرين الذين يسكنون في الغرف المجاورة. من النافذة، أمتلك إطلالة رائعة على ضواحي حلب، خارج لندن. كنت ألاحق المخدة التي تهرب مني في كل مرة أحاول فيها النوم. لا أدري، دائما هكذا تسير الأمور معي. أشياء تهرب، وأخرى تسبقني، وفي مرات كثيرة أضيع أنا من نفسي..
في وقتٍ سابق وبعيد، وجد ك نفسه في مباراة فردية للتنس. كانت اللعبة فردية لدرجة أنه كان اللاعب الوحيد فيها. لم تكن هناك كرات أو شباك، لكن التصفيق كان مسموعاً حتى قبل بداية اللعبة. أحب نفسه الموجودة على الطرف الآخر، وواجهها بكل حزم. خسر بعض النقاط وهو يفكر فيما إذا كانت الإذاعات والصحف ستتحدث عن المباراة في قسم الرياضة أم قسم الدراما..
قدمت الكاتبة بحدسها الفني الحياة أو ما يسمى بالحياة أو ربما الموت، وحياتنا اليومية، بسردٍ سحري، ترى النص فيه يقترب من الواقع دون أن ينزل إلى مستواه. بالإضافة إلى ذلك تكون العبود واعية لما تكتب في اللحظة التي يحتاج فيها القارئ أن يتلمس طريقه وتتخلى عن وعيها عندما يتطلب منها النص ذلك ليرتقي بنفسه وبالقارئ إلى أعالي الفن...
هناك مرة حاولت فيها كتابة يومياتي. لكن عندما عدت إلى ما كتبت لاحقاً، وجدت أنه على الرغم من عدم ذكر أي وصف للمكان لكن لا يمكن لأحد أن يقرأها دون أن يتخيل أنه في مشفى. حيث كتبت بأن اليوم هو الاثنين، الكل يكره يوم الاثنين، لكن بالنسبة للشخصيات الموجودة في مذكرتي، هو يوم مثل أي يوم آخر، محاولة أخرى للبقاء حياً. أتابع، التقيت ك في الردهة. لم يسلم علي. سقطت عدة قطرات، ربما لم يقل لي مرحباً بسبب ذلك: لا يشعر المرء برغبة في قول مرحبا أثناء هطول الأمطار..
دار الكلب عدّة مرات حول المكان ليؤكد للمارّة أن هذه الدائرة الصغيرة التي شكّلها أصبحت محجوزة له ولصاحبه -الموسيقي الأعمى- طيلة ساعات النهار وعند انتهائه من دورته السابعة توجه إلى جانب صاحبه، رفع ذيله وهزّه ليضرب به ساق العازف، معلناً بدء الحفلة الموسيقية.
لقد نشرت كتاباً، لكن لا يوجد قارئ. أين هو؟ لماذا لم يُحدث الكتاب أثراً إلى الآن؟
هناك طريقتان للكتابة. أولهما هو أن تكتب ما يفوق جموع الناس أو عكس فهم الجموع وهذا النوع من الكتابة التي توصف بالعبقرية وتحتاج إلى وقت طويل وأمد بعيد حتى يستقبل ويعطى قدره...
منذ السنة التي تحول فيها ك إلى العمل من المنزل- لخمسة أيام ويوم في المكتب، وإحساسه بالمكان، الغرفة، التي يجلس ويعمل فيها يضيق، وكأنها تأخذ بالتقلص. لذلك، بدأ في نقل الاغراض منها وكل يوم نجح فيه بالاستغناء عن شيء من الموجودات ونقله إلى المستودع، شعر بأن إتمام اليوم أمر أكثر قبولاً، رغم أن الشعور نفسه لا يختفي ويظهر مجدداً بنفس القوة في الصباح التالي، لكن لا بأس، طالما أنه ليس هناك من حل آخر..
يتحدث ماهر مسعود في مقاله ”الفلسفة والعدمية“ من أن العدمية الأخطر ليست تلك التي تأتي من إدراك الإنسان لفوضى الطبيعة، وبالتالي فقدان المعنى، إنما من تلك المنظومات التي استغلت خوف الانسان من الفوضى لتقدم له ”حقيقة“ تسكن قلقه وكون هذه الحقيقة خارج الخبرة الانسانية، فهي تتعالى ليست فقط على التجربة البشرية، بل على العالم ذاته، وبذلك يشعر الإنسان أمامها أنه ادنى،.
المشي، أحياناً يكون طريقة للتخلص مما يؤرق الذهن، وكثيراً ما يكون طريقة لإنتاج فكرة جديدة، الحالتين تحملان راحة كبيرة، بمثابة خلاص للسيد ك، فهو واحد من هؤلاء الذين يرتاحون عندما تنتج أذهانهم فكرة، على الرغم من أن أفكاره، إلى الآن، لم تؤت بأي نتيجة مفيدة ليس له ولا للبشرية، لا بأس.. فهو بطبيعته ينزع إلى الأوهام. يدرك ك أنها أوهام، أحلام، أفكار رجل بائسز.. لكنها منعشة له بكل الأحوال. هذا التخيل والخلط بين الواقع والخيال وكأنه نقاش بين العالم المعقول وأفكار أفلاطون. أحب ك أفلاطون بشدة.
دخل ك إلى غرفته الباهتة إلى حد خارق للمألوف في إحدى الفنادق المكسيكية. عائداً من كازينو خسر فيه كل ما جناه من تجارته بالمخدرات. بدا وجهه شاحباً كما لو أنه عبر من تلك الشوارع الخالية من كل شيء إلا القناصين.. في ذلك التجريد والعراء والعنف تخرج من الإنسان تلك النسخ المتخفية في جوفه، نسخ تخلق دونما جهد وفي طرفة عين. بدا كما لو أنه فرد قذر من عصابة وليس تاجراً، لم تعرفه كلابه، نبحت، وعضت بعضها البعض. مات ك من الخوف وركضت ف إلى الشرفة وقفزت بشكل لم يسبق له من مثيل.
”العازب ليس أنانياً، إنه فقط شخص لا قدرة له على تعذيب أحد“ .
أخبرتني جارتي "ر" الإيرلندية أنها قضت ليالي، في دبلن، حيث كان من الممكن أن تصادف إحدى تلك السهرات التي ينام فيها جميع الحاضرين تقريباً مع الجميع. أما اليوم فكما ترى، قالتها وهي تشير بيدها إلى ما تبقى من أصدقائها في منزلنا المشترك، نشرب أكثر مما سبق. ننتهي إلى أن يأخذ الجميع تقريباً صور سليفي مع الجميع ويتجه كل واحد منّا إلى فراشه منفرداً.
عندما كنت أتناول العشاء مع ف في شقتها، التي كانت في الطابق السادس من المبنى، وكانت أيضاً مليئة بالكتب والأكواب والملفات والكثير من الأشياء غير المفيدة، مرمية في أماكن مختلفة بشكل عشوائي. سألتها عن السبب؟ أجابتني أنها تكره أن يكون لمنزلها محتوىً سردياً، وأن هذا الكره توّلد لديها، بعدما فقدت الأمل بكل ماهو خطي وتقدمي وسببي.. وذلك بعد أن سمعت في إحدى المرات، عندما كانت صغيرة، والدتها تتحدث إلى طبيب تخبره فيه: أن شعر ذقنها ينبت ويزداد كثافة بشكل سريع. بعد ذلك أصبحت تنتظر أن تتحول أمها إلى رجل ..
قضيت 61 يوماً متتالية في العمل، دون أي يوم عطلة. كنت أعمل 12 ساعة يومياً، بالإضافة إلى ساعتين أقضيهما في الطريق. كانت بطات قدماي تصرخان وأحياناً تقفزان من تلقاء أنفسهما إلى الأمام كما لو كانتا تحاولان الهرب مني، صحيح أني أطعم جسدي ولكن بطريقة ما كنت أطعنه أيضاً. أما قدماي فلم أكن أشعر بهما وكان الحذاء أكثر حقيقة من حقيقة وجود قدم بداخلها.
تعرّف شافيل على كلامنتين في السكن المشترك الذي يقيمان فيه مع عدة أشخاص آخرين، فقد تقابلا عدة مرات في طريقهما إلى الحمام ليلاً حيث أنّ كليهما يستيقظ بشكل متكرر في الليل لإفراغ مثانتهما كما لو أنهما يفرغان مشاعر الرعب بعد كوابيس مزعجة. اعتبرا أنّ هذا التشابه أمر كافي لبناء تواصل ما.. حيث نشأت في البداية بينهما صداقة عادية، ثم تطورت إلى صيغة من نوع آخر يسمى "صداقة مع فائدة".
يعارض منظرو مابعد الحداثة في المجتمعات الشرقية، حاجة مجتمعات المنطقة إلى الحداثة وذلك بحجة أن العالم كله استخدم التلفزيون والهاتف والبرادات والكثير من الأدوات التقنية وذلك برأيهم كافٍ لنقول أننا عشنا الحداثة. اعتقد أن هذا الاعتراض غير صحيح لأن الاستهلاك هي سمة مابعد حداثية، وأيضاً حتى لو كان بإمكاننا القول /بشكل ساذج/ أن الذوات بكل مكان مابعد حداثية وذلك لما يتمتعون به من سمات هذا العصر من شراهة بالاستهلاك والعيش في العالم الافتراضي..
فوق أحد جسور نهر التايمز، وبعد أن أغلقت البارات أبوابها، وأطفأت البيوت أنوارها، وبدأت الخفافيش جولاتها الإجرامية وذلك بتحويل الظلام إلى جثة هامدة تهبط على الأرواح القلقة للساهرين، كان شافيل يسير دون وجهة / بشكل أدق ربما مستسلما لمسارات الطرق، حيث أنه من الأكثر منطقية للمرء بعد أن يصل إلى منتصف تاريخ صلاحية جسده وبعد أن يأخذ نصيبه الكامل بالحظ العاثر أن يصبح محبطاً بشكل كافٍ ليصبح بمقدوره العيش دون وجهة، فمجرد المحافظة على المسير يعني أنك وصلت/ محني الأكتاف كما لو كان في حالة توسل دائم للخلاص.
البحث عن عمل، سواء أكنت تعمل في الوقت الحالي ام لا، هو نشاط لابد منه لكل إنسان في العصر الحالي. لأنّ الوظائف غير ثابتة، فلا أحد يعلم اللحظة التي يمكن أنّ يطرد فيها، ولا اللحظة التي يمكن للمرء أن يختنق فيها من وظيفته لدرجة أن يخرج من الباب ويطلق قدميه للريح بحثاً عن هواء في مكانٍ آخر. وأيضاً هناك دائما احتمال انهيار الشركة، وهذه تعد موضة في أيامنا، حيث تختفي الشركات وكأنها لم توجد قط...
أزال الستار عن باب الشرفة ليَعبر إلى المسرح الخارجي للعالم، بعد أن ضاقت عليه فيونا، توأمه الحالي، ملجؤه الداخلي بمقاطعتها المتكررة لقرائته. عبر العتبة إلى الخارج.. فكّر شافيل أنّ كل خروج إلى العالم هو تجسيد للحظة الولادة. وقف على حافة الشرفة، نظر إلى الأسفل مذهولاً، وصرخ ها أنا هنا ورفع الكتاب وقال هذا عالمي..في الشارع، كان الناس يمشون وهم إمّا ينظرون إلى الأرض أو إلى الأفق دون تركيز في شيء على وجه الخصوص. في المدن الكبيرة، الجميع في عداد المفقودين.
وصل شافيل الى المنزل في وقت متأخر، وعندما يصل متأخراً، يجد صعوبة في النوم، لأن روتينه اليومي في الاسترخاء قبل النوم يصبح مستحيل التحقق، لينقذ ما يمكن انقاذه بدأ من الفقرة الأخيرة من روتينه وهي القراءة. في الصباح، عندما استيقظ شعر بألم على مقدمة رأسه وكأن أحدهم ضربه بعصا وهو نائم، سأل فيونا ان كانت قامت بذلك، أجابت بالنفي.
المشهد في الخارج ثابت على مجازر في الطرقات، تقدم تقني سريع في السيلكون فالي، رصيد جيف بيزوس يتضاعف، غابات تحترق، وسحابة دخان تنتقل عبر الهواتف، وتحجب الحياة عن البشر. اما في الداخل، في الغرفة، كان شافيل يعيش حالة حمل عاطفي زائد.
في كتاب تدهور الحضارة الغربية يتحدث شبنغلر عن دورة حياة الحضارات التي مآلها الصعود الى قمة التقدم ثم السقوط في الانحطاط وان هذه الدورة هي أبدية في عودها. هذه النظرة المتشائمة للبشرية قُدمت في الكثير من الاعمال الفنية التي تحدثت غالبا عن الايام التي تسبق الابوكاليبسي (نهاية العالم) ولكن القليل من الاعمال تناولت الايام التي تلت السقوط والأقل الذي تناول البشرية بشكل حضارة جمعية غير محصورة بقارة او منطقة محددة..